ضمن سلسلتها الأدبية “كتابات ولوحات”، أصدرت الكاتبة والشاعرة والفنانة التشكيلية لبابة لعلج، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة مؤلفا جديدا بعنوان “أيقونات التشكيل بصيغة المؤنث”، في نسختيه الفرنسية والعربية.

ليس صدفة أن يتبوّأ الكتاب الكوني “ألف ليلة وليلة“، بمؤلفه المجهول، مكانة خاصّة، وأن تملأ “شهرزاد” الدنيا وتشغل الناس، وأن تتوارى إلى الخلف شخصية “شهريار” وقد دشّنت دموية البداية وحبكت مطلعها المُبكي. ما كان ليحصل هذا لو لم تكن “شهرزاد” صوت الصدى الصادح من الأعماق، لو لم تكن الاسم الجريح المستعار لشبيهات تاريخيات خشين الإفصاح عن أسمائهن.
هنا في “أيقونات التشكيل بصيغة المؤنث” تكشف الشاعرة لبابة لعلج عن أسماء الشبيهات، تمنحهن فرصة التعبير بالواضح عن ذواتهن، تمنحهن حيّزا من طينتهن كي يتكلّم “المسكوت عنه” بصوت جهوري، ويصرخ بقوّة في وجه قبح العالم، وهو يكشف ثنايا المنجز الإبداعي، تقول الشاعرة:
“لا يسعفها جسدها بأية إغاثة
عصي ومنطو على نفسه، يصرخ أو يخرس!”
لم تقم الكاتبة لبابة هوة لتعميق الشرخ بين ركني المعادلة، بل أسّست حيّزها، وهي تقرأ الخلل التاريخي، على وجوب الانتباه الى مبدأي “الذكورة” و”الأنوثة” من منطلق النقيض الكامن في القضية، من الموجب الخارج بالضرورة من السالب، من قبل أن يتأسس التركيب.
إن بلوغ تصحيح المعادلة، عند لبابة، إنما يتأسس على “المبدأ الأنثوي” ANIMA الكامن بالقوة في “المبدأ الذكوري” (ANIMUS) بتعبير كارل يونغ، والعكس صحيح. من عمق هذه الجدلية استرقت الكاتبة السمع لما يعتمل داخل المبدأ الأنثوي وهو ينسج صوته الناعم، نكاية بكل الخيبات، يقول المبدأ الأنثوي على لسان لبابة:
” …نرى المرأة تلتقط العنب، قدحها خال من النبيذ”.
في هذا القول الممتد، تصريحا وتلميحا، على طول صفحات المنجز، إنما تعمل صاحبته على قراءة هذا “القدح الفارغ” لتملأه بقوة العنفوان الصامد القاطن في هذا البوح الجارح، إذ من قلب المحنة والعطب استطاع هذا المبدأ الأنثوي، ومن خلال أيقوناته، أن يعلّمنا أن التسامي بالجرح يمنحنا حليبا خالصا حتى من ثدي الألم.
تتساوى الأيقونات (فريدا كاهلو، زها حديد، بايا، كاميل كلوديل، نيكي دي سانت فال، مريم أمزيان، الشعيبية، زهرة الزيراوي، سونيا ديلوناي، إليزابيث فيجي لوبران، أرتيميسيا جنتلسكي، سيندي شيرمان، يايوي كوساما، وانجيتشي موتو، شورنتزغ سوخبات، يان لوتملان ميزا) وتتوحد وجوههن في لوحات المعاناة، وقهر الزمن، ومكر التاريخ، ومصادفات اليومي الغبية، ولكنهن سرعان ما ينبعثن عنقاء من رمادها، غير خائنة لتاريخها بل وفية له بالقدر الذي تحوّل ما كان قهرا ومعاناة إلى منجز فنّي شاهد على التاريخ الشخصي والجمعي ، تحوّل إلى جذع شجرة صامدة ما كان لها، كما قال غاستون باشلار، “أن تصمد لو لم تكن صلبة تحمل عاليا تاجها الهوائي وأوراقها المجنّحة فتنقل للإنسان الصورة الكبرى لكبرياء مشروع”.
تقول آني لوكليرك:
“سيكون من الخسارة الفادحة أن تكتب النسوة بأسلوب الرجال، وأن يعشن كما يعيشون، لأنه حين يظهر الجنسان معا عاجزين عن الإحاطة بمدى العالم وتنوعه، فكيف سيكون الأمر مع جنس واحد”.
هو ذا ما عملت الفنانة لبابة لعلج على الإحاطة به لندرك أننا، بكل تأكيد، إذا اكتفينا برؤية أحادية سنعجز عن الإحاطة بالعالم.
يقال عادة إن الترجمة خيانة (Traduttor/Traditore) غير أن الدكتور عبد الله الشيخ آمن بعمق أن “ما لا يؤنث لا يعوّل عليه”، بذلك اقترن المبدآن في فهم العالم. آدم وحواء يتحاوران خلسة، وهما معا معنيان بما يجري بين الحياة والوجود، ويحلمان بعالم محتمل، تقول لبابة لعلج:
* د. عبد الإلاه رابحي، ناقد وأستاذ باحث