على مسؤوليتي

عسكرة الدولة بين الرمزية والمؤسسات: قراءة في قراري ترامب وماكرون

نشرت

في

يشهد العالم اليوم، انزياحًا متسارعًا نحو تغليب السرديات الأمنية والعسكرية على حساب السرديات المدنية والديمقراطية. في هذا الإطار، يبرز قراران لافتان: اقتراح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، وتعيين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لوزير الدفاع رئيسًا للوزراء.

كلا القرارين يعكس مسارًا عالميًا نحو عسكرة الدولة، لكن بأدوات ومقاصد مختلفة.

1. قرار ترامب: عسكرة اللغة والرمزية
اقتراح ترامب لا يتعلق بتسمية شكلية، بل هو إعادة صياغة لفلسفة الدولة. فمصطلح الدفاع يوحي بالشرعية والضرورة، بينما يحمل مصطلح الحرب نزعة هجومية وعدوانية. بذلك يتحول الخطاب العسكري الأمريكي من حماية الأمة إلى فرض الهيمنة.

هذا التحول الرمزي يعيد تشكيل السردية الأمريكية، من “شرطي عالمي” يزعم حماية الديمقراطية، إلى “إمبراطورية” تمارس الحرب كخيار أصيل لتحقيق مصالحها.

كما أن هذا التغيير يمهد لعسكرة السياسة الخارجية، حيث يصبح التدخل العسكري خيارًا مبررًا ومشروعًا، ما يضعف المؤسسات المدنية ويزيد من احتمالات التوتر الدولي.

2. قرار ماكرون: عسكرة البنية السياسية
أما قرار ماكرون، فيكشف نزوعًا مختلفًا. فاختياره لوزير الدفاع رئيسًا للوزراء يترجم هيمنة المنطق الأمني داخل السلطة التنفيذية. هنا لا يتعلق الأمر بالرمز واللغة، بل بالبنية المؤسساتية نفسها؛ فعلى المستوى السياسي، يعكس هذا الخيار محاولة لإدارة الأزمات الاجتماعية وصعود اليمين المتطرف عبر “تغليب الأمن على السياسة”.

وعلى المستوى الرمزي، ينقل فرنسا من صورة “جمهورية الحقوق” إلى “جمهورية محروسة”.

أما توقعيًا، فهو إشارة إلى أزمة الشرعية السياسية التي يعاني منها ماكرون، وإلى افتقاره لبدائل مدنية قادرة على إدارة المرحلة.

3. المقارنة النقدية: عسكرة المفردة أم عسكرة الوظيفة؟
رغم اختلاف السياقين، يجتمع القراران في مسار واحد: تضخم السرديات الأمنية والعسكرية. غير أن ترامب اختار عسكرة المفردة، أي اللغة والرمز، فيما اختار ماكرون عسكرة الوظيفة، أي السياسة والمؤسسات.

الأول أخطر على المدى البعيد، لأنه يرسّخ بارادايم جديدًا يجعل الحرب حالة دائمة في الوعي الجمعي. والثاني أخطر على المدى القريب، لأنه يغير هرم السلطة ويجعل الدولة جهازًا أمنيًا يقيس نجاحه بالضبط لا بالتدبير.

بكلمة، ترامب يمهّد بعسكرة رمزية تسبق العسكرة المؤسساتية، بينما ماكرون ينطلق من المؤسساتية ويبحث لاحقًا عن تبرير رمزي لها.

وكخلاصة تحليلية – في ضوء التفكير النقدي التوقعي:
فإن هذين القرارين يعكسان انتقالًا عالميًا من منطق “إدارة السلم” إلى منطق “إدارة الحرب”، ومن حماية الحقوق إلى تأبيد السيطرة الأمنية. من منظور استشرافي، يمكن أن تترتب عن هذا المسار ثلاثة سيناريوهات محتملة:
أ. سيناريو التصعيد الدولي: حيث تفتح عسكرة اللغة والمؤسسات معًا الباب أمام عودة أنماط الحرب الباردة، عبر إعادة بناء تحالفات قائمة على القوة لا على القيم.
ب . سيناريو التفكك الديمقراطي: إذ تتحول الديمقراطيات الغربية من أنظمة مدنية تعددية إلى دول طوارئ دائمة، تُدار بمنطق الأمن لا بمنطق الحقوق.
ج . سيناريو المقاومة المدنية: وهو الاحتمال الذي يفتح المجال أمام بروز سرديات مضادة، مدنية وحقوقية، قادرة على إعادة التوازن بين الأمن والحرية، بين الدولة والمجتمع.
هكذا، يصبح التفكير النقدي التوقعي ضرورة ملحّة لفهم ما وراء القرارات الرمزية والمؤسساتية، ولمساءلة الاتجاه العام الذي يدفع العالم نحو عسكرة متزايدة على حساب أفق السلم والحرية.

مصطفى المنوزي
رئيس المركز المغربي للديموقراطية والأمن

انقر للتعليق

الاكثر مشاهدة

Exit mobile version