على مسؤوليتي

الملك والبرلمان وجيل Z : الرسائل المبطنة لخطاب افتتاح البرلمان

نشرت

في

* مراد بورجى

الخطاب الملكي في افتتاح آخر سنة تشريعية من الولاية الحالية للبرلمان (2021-2026) جاء تجسيدا لحدث دستوري دوري اعتيادي، كما قد يبدو ظاهريا، لكنه، في تقديري، يمثّل لحظة سياسية مكثفة ستُؤرَّخ كمنعطفٍ دقيقٍ أعاد ترتيب المفاهيم في المشهد المغربي، وأعاد تعريف العلاقة بين الدولة ومؤسساتها، بين الشرعية الدستورية والإرادة الشعبية، بين الإصلاح كخيارٍ استراتيجي مستمر، والاحتجاج كعرْضٍ لأزمةٍ أعمق في القيم والسياسات.

لقد بدَا الخطاب، في نبرته الموزونة واختياره الدقيق لكلماته، كأنه جردٌ سياسي وأخلاقي شامل، يتجاوز حدود المناسبة إلى مساءلةٍ صامتةٍ لفاعلين تكلّسوا في مواقعهم، ولم يعودوا في مستوى اللحظة ولا على قدْر انتظارات الوطن والمواطنين. إنّه خطاب يضع الإصلاح في مقابل العجز، والمساءلة في مقابل التبرير، والجدية في مواجهة عبثٍ سياسيٍّ بدأ يتآكل من داخله.

وحين تحدث الملك محمد السادس عن أداء البرلمان، كان صوته واضحًا في التفريق بين من مارس التمثيل النيابي كأمانة ومسؤولية، وبين من حوّل المؤسسة التشريعية إلى واجهة شكلية لمصالحه الضيقة أو إلى وسيلةٍ للاغتناء والوجاهة. ومن هنا، فإن الإشادة الملكية بالبرلمانيين، في بداية الخطاب، لم تكن مديحًا جماعيًا كما ظنّ البعض، بل كانت إشادة انتقائية موجَّهة لأولئك القلّة الذين أدّوا مهامهم بضمير ومسؤولية، فيما كانت، في الآن ذاته، تذكيرًا قاسيًا للمتقاعسين بأنهم تحت أعين المحاسبة. وقد كان لافتا، في هذا الصدد، أن الملك ختم خطابه بآية بليغة (الآية 7 من سورة الزلزلة) تُلخّص فلسفة الحكم الرشيد: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”، وكأنها رسالة موجهة إلى كل مسؤول نسي أن السلطة تكليف لا تشريف، وأن الحساب قادم لا محالة، دنيويًا قبل أن يكون أخرويًا.

لا أبالغ في هذا التأويل، فلم تكن هذه أول مرة يوجّه فيها الجالس على العرش هذا النوع من النقد الصريح، فقد سبق له في خطاب افتتاح البرلمان سنة 2016 أن وبّخ فئة من المنتخبين، الذين قال إنهم “يستغلون التفويض الذي يمنحه لهم المواطن لتدبير الشأن العام في إعطاء الأسبقية لقضاء المصالح الشخصية والحزبية، بدل خدمة المصلحة العامة… فإذا كانوا لا يريدون القيام بعملهم ولا يهتمون بقضاء مصالح المواطنين… فلماذا يتوجهون إذن للعمل السياسي؟”. ثم عاد الملك، في خطاب العرش لسنة 2017، ليصوغ أقسى عبارة في تاريخ الخطابات الملكية الحديثة، حين قال: “وإذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة، التي تُمارَس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟ لكل هؤلاء أقول: كفى، واتقوا الله في وطنكم… إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا”!.

بهذا التراكم من الرسائل، يتضح أن الخطاب الملكي الأخير ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة مساءلةٍ ملكية مستمرة لطبقة سياسية لم تُدرك بعد أن عهد التساهل انتهى، وأن عهد الجدية بدأ، وأن الإصلاح اليوم ليس شعارًا يُرفع، بل محكًّا تُقاس به الضمائر والمسؤوليات.

لقد جاء الخطاب الملكي في لحظة وعي عام متزايد بتآكل الثقة في المؤسسات المنتخبة، بعد سلسلة من الفضائح التي طالت منتخبين وبرلمانيين ورؤساء جماعات، وكانت الحصيلة أن العشرات من البرلمانيين، وليس واحدا أو اثنين، يوجدون اليوم خلف القضبان بعدما أدانتهم محاكم جرائم الأموال، إضافة إلى برلمانيين ومنتخبين آخرين ملاحقين بتهم الفساد ومهددين بالاعتقال… إضافة إلى برلمانيين آخرين صوّتوا لصالح ممارسة الفساد وتضارب المصالح، وهي شبهات تلاحق الحكومة بأصوات سياسيين وحقوقيين ونشطاء مدنيين وحتى مواطنين عاديين منذ سنوات إلى أن إلتحق بهم جيل Z .

وفي إشارة ذات صلة، نستحضر مبادرة الملك، نهاية شهر مارس الماضي، وبعد سنوات من مراوحة هيئة محاربة الرشوة مكانها، بتعيين قاضي على رأس للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، فكانت أول مبادرة يقوم بها هي التوقيع على اتفاقية الاستراتيجية، مع قطب المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، بغاية مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، حتى لا يظل حبيس التقارير، وهذا يحمل إشارة قوية إلى أن زمن الإفلات من العقاب ولّى، وأن هناك إعادة ترتيب ملكي مقصود لجدول أولويات الدولة: تطهير الداخل قبل التطلع إلى الخارج، وتحصين الجبهة الوطنية من أخطر ما يهددها، وهو تغوّل المال الفاسد وتحلّل الضمير العام.

في خلفية هذه الإشارات كلها، بدا واضحًا أن الملك يتحدث بلغة الجدية التي دعا إليها مرارًا. الجدية في التسيير، في الخطاب، وفي التمثيل. وهي الجدية التي يُفترض أن تتعدى مستوى الشعاراتية لتتحوّل إلى مبدأ ناظم لكل مرحلة إصلاح جديدة، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الاجتماع. فالدولة الجادة لا يمكن أن تُبنى على نخب مرتابة أو أحزاب غارقة في حساباتها الصغيرة وفي انتهازية قادتها الخالدين على الكراسي والذين لا يريدون ترك منفذ للكفاءات والأطر الشابة، بل على هؤلاء أن يدركون أن البرلمان ليس ناديًا انتخابيًا أو غطاءً يحصّن الفاسدين من الحساب والعقاب، بل مؤسسة سيادية تعكس نضج الأمة لا تخبّطها.

ومن بين الرسائل الأعمق في الخطاب، تلك التي يمكن التقاطها في لحظة الافتتاح نفسها. فاختيار تلاوة الآيتين 77 و78 من سورة الحج (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرۡكَعُواْوَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ،وَجَاهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ ٱجۡتَبَاكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ، مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَ، هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡوَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ، فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَاةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَوٰةَوَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَولاكم، فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ) قبل الخطاب هو، في اعتقادي، ترميز ديني ودستوري مزدوج: هو إشارة إلى أن من يفتتح البرلمان هو الملك بصفته أمير المؤمنين كما نص على ذلك الفصل 41 من الدستور، لكنه في الآن ذاته يخاطب نواب الأمة بصفته رئيس الدولة الضامن لحرية الشأن الديني ولقيم الصدق والمسؤولية. في تلك اللحظة، تتقاطع إمارة المؤمنين مع روح المواطنة، ويتحول الافتتاح البرلماني إلى طقس يجمع بين العبودية لله والمسؤولية تجاه الناس، بين الشرعية الروحية والشرعية السياسية. ومن هنا يمكن القول إن الخطاب لم يكن موجهًا إلى البرلمان فقط، بل إلى الأمة في شمولها، من هم داخل القبة ومن هم خارجها، إلى من يشاركون في صناعة القرار ومن يحتجون عليه، إلى الجميع وليس قصرا على فئة من الشباب.

ولذلك، ورغم أن الخطاب لم يتطرق مباشرة إلى احتجاجات “جيل Z212″، إلا أن غياب الإشارة لا أعتقد أنه إغفال، بل اختيار محسوب بدقة. فإدراج الحركات الاحتجاجية في خطابٍ ملكيٍّ موجّهٍ للبرلمان كان سيخلط بين منطق الشارع ومنطق المؤسسات، بين الاستجابة السياسية والانتظام الدستوري. الملك، وهو الضامن لاستمرار الدولة، يدرك أن معالجة الغضب الاجتماعي لا تكون بالانفعال ولا بالمزايدة، بل بإعادة الاعتبار إلى المداخل المؤسساتية للإصلاح، لأن الدولة حين تفقد توازنها الرمزي تصبح أسيرة الانفعالات، وحين تتنازل عن هيبتها الرمزية تفقد قدرتها على الإصلاح من الداخل. ولذلك، فإن صمت الملك عن ذكر “جيل Z”، لا يعني، في نظري، تجاهل مطالبه، بل إعادة توجيهها إلى القنوات الشرعية، التي يضمنها الدستور ويؤطّرها القانون، وهو ما يؤشّر إلى أن الغد المنظور سيشهد، بهذه الصيغة أو تلك، العديد من المحطات الإصلاحية.

إن المفارقة الكبرى اليوم أن هذا الجيل، الذي فقد ثقته في الأحزاب، يجد نفسه، من حيث لا يدري، أقرب إلى رؤية الملك نفسها، فالمواقف التي عبّر عنها شباب حركة “GenZ212” من الأحزاب، هي نفسها بل أحيانا أكثر منها حدّةً المواقف التي عبّر عنها وحذّر منها الجالس على العرش، في كثير من خطبه ورسائله وبلاغات قصره، إذ ظلّ يحمّل الأحزاب مسؤولية تراجع الثقة، بل ووبخها ضمناً على انشغالها بالاستحقاقات الانتخابية والمصالح الذاتية الضيقة بدل الانكباب على قضايا المواطنين، بل وصل الأمر إلى اتهام بعض مسؤوليها بالخيانة، وطالبهم بالرحيل، حتى أنني كتبت يوما مقالا تصوّرت فيه أنه بعدما لم تنفع، مع هؤلاء “المستخلدين” الحزبيين، الخطب والرسائل والتوجيهات والأوامر الملكية، لم يتبقَّ سوى أن نرى يومًا الجالس على العرش يخوض “وقفات احتجاجية” أمام مقرّات هذه الأحزاب لمُطالبة قادتها “الدائمين” بالرحيل.

فهناك أكثر من خطاب وأكثر من “غضبة” ملكية على هذه العينة من المسؤولين والسياسيين، الذين ما فتئ الملك يدعوهم إلى الاختفاء من الساحة، لأنه فقد الثقة فيهم ومعه الشعب… ولعلها نفس الرؤية قد تحكم القصر في مواجهة قيادات حزبية متهالكة تداعت، في الفترة الأخيرة، إلى سباق المسافات نحو ما أسمته فاطمة الزهراء المنصوري “حكومة المونديال”، بالترويج الواهم لفرصها في الفوز بانتخابات سنة 2026، سباق محموم دخل فيه أيضا وبكل رعونة، إضافة إلى حزب الأصالة والمعاصرة، كل من حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الاستقلال… ومن هذا المنطلق بالذات، كنت دعوتُ، في مقال سابق، إلى أن تكون الحكومة المقبلة، التي يسمونها “حكومة المونديال”، هي حكومة ائتلاف وطني… فحين تنشغل قيادات حزبية، من قبيل فاطمة الزهراء المنصوري وعزيز أخنوش ونزار بركة، بانخراط “مسعور” في سباق “حكومة المونديال”، فإنها تُفرّغ السياسة من مضمونها وتُعيد إنتاج العجز ذاته الذي يشتكي منه الشباب. الخطاب الملكي، بهذا المعنى، هو دعوة إلى استعادة السياسة من أيدي السياسيين، وإلى إعادة تأسيس المعنى الوطني في الفعل الحزبي بعدما تحولت المؤسسات إلى امتداد لمصالح خاصة أكثر منها تجسيدًا للإرادة العامة.
يتبع..

انقر للتعليق

الاكثر مشاهدة

Exit mobile version