على مسؤوليتي

الجامعة بين الجمود والاحتجاج: هل ينخرط المتعلمون في نقد التعليم بدل تكرار أعطابه؟

نشرت

في

كان بودنا كفاعلين ميدانيين وشبيبات سابقة ؛ أن نتمسك بشعارنا الخالد ” لن نعيش زمننا وزمن غيرنا ، شريطة ألا تبخسوا أشياءنا ” ، غير أن كثيرا من أدبيات البحث العلمي في عالمنا ، وطنيا وإقليميا ، ما تزال عاجزة عن التمرين الحقيقي على التحليل الملموس للواقع الملموس، وكأنها تخاف أن يفسد الواقع جمال النظريات القديمةاو المتقادمة ، فهي لا ترى في الواقع مادةً للفهم والتغيير، بل ذريعةً لتأكيد ما قيل سابقًا.

لا تزال تلوك المفاهيم ذاتها، وتعتمد مناهج شاخت تحت غبار الزمن المعرفي ، فتكتفي بترديد ما قيل بدل مساءلته. أغلب الباحثين لم يجددوا بحوثهم ولا معارفهم — بل حتى معلوماتهم — وكأنهم توقفوا عند أول إنتاج أكاديمي لهم، ثم دخلوا في سبات معرفي طويل ، حيث يشبه بعضهم الديكة التي لا تبيض إلا بيضة واحدة في حياتها، ثم تمضي ما تبقّى منها في الصياح حولها، وكأنها إنجازٌ أبديّ لا يُمسّ!.

لكن المشكلة لا تتوقف عند حدود الكسل الفكري أو الاجترار المنهجي، بل تمتد إلى بنية الجامعة نفسها ، فالجامعة، التي كان يُفترض أن تكون فضاءً للبحث الحر والنقد الجريء، تحولت في كثير من الحالات إلى إدارة بيروقراطية تُدار بعقلية “الملف” و”المسطرة”، لا بعقلية الرؤية والمعنى ؛ وغابت عنها روح المغامرة العلمية، وأُخضعت لتوازنات سياسية أو حسابات تمويلية جعلت من استقلاليتها شعارًا بلا مضمون، ومن الحرية الأكاديمية امتيازًا نادرًا يُمنح بقدر الولاء لا بقدر الكفاءة.

وفي هذا السياق، يطل جيل زد 212 بمطلبه الجوهري: إصلاح التعليم وتحريره من الجمود. هذا الجيل كان يفترض أن لا يطالب فقط بمناهج حديثة أو تجهيزات رقمية، بل بمنظومة فكرية ومؤسسية تُحرر العقل من الوصاية. يريد جامعة مستقلة، لا جامعة تابعة؛ أستاذًا باحثًا لا موظفًا علميًا مقيّدًا بميزانية أو مرسوم؛ وتعليمًا يعلّم السؤال لا الطاعة، ويُدرّب على التحليل لا على الحفظ، ويُحفّز على الإبداع لا على الامتثال.

إن الحديث عن إصلاح التعليم دون تحرير الجامعة يشبه محاولة زرع شجرة في تربة ميتة. فالحرية الأكاديمية ليست ترفًا مؤسساتيًا، بل شرط وجودي لأي إنتاج معرفي جديد. من دونها، لا يمكن للجامعة أن تنتج سوى ما تنتجه اليوم: تقارير شكلية، بحوث مكرورة، وأجيالًا تائهة بين عالم الشهادة وعالم الشهادة عليها.

لقد آن الأوان لنسأل بصراحة:
هل الجامعة اليوم تُدرّب على التفكير أم على التبرير؟
وهل استقلاليتها المعلنة سوى ستار يخفي تبعيتها البنيوية للدولة والسوق؟.

جيل زد 212 لا ينتظر الإجابة في الندوات أو البلاغات، بل يختبرها في الشارع، وفي الشبكات، وفي كل مساحة حرة من الفضاء العمومي. هناك فقط تُمارس الحرية الأكاديمية فعلاً، لا شعارًا.

على سبيل الختم والاستشراف
يبقى السؤال الجوهري:
هل تفكر بقية الأجيال المتعلمة — التي راكمت شهادات وتجارب ومناصب — في الانخراط النقدي في الحراك المجتمعي، ولكن من زاوية تقديم قيم مضافة، لا من موقع الوصاية أو النصح المتعالي؟.

إن جيل زد 212، بما حمله من احتجاجات ومطالب تعليمية، قد أعاد إلى الساحة سؤال الجدوى والمعنى في الفعل العمومي. غير أن رهانه لن يكتمل إلا إذا تجاوبت معه الأجيال السابقة بروح نقدية مسؤولة، تترجم خبرتها إلى دعم معرفي ومؤسساتي حقيقي، لا إلى خطابات استعلاء أو اجترار لذكريات النضال.

قد يكون المدخل لذلك هو استعادة روح الجامعة كمختبر للمعنى، لا كجهاز لتوزيع الشواهد، وإحياء مفهوم الحرية الأكاديمية كأخلاق في إنتاج الحقيقة، لا كشعار في البيانات. فحين تلتقي التجربة النقدية للأجيال السابقة بجرأة الجيل الجديد، يمكن أن نؤسس معًا لوعي احتجاجي راشد، يُعبّر لا فقط عن الغضب، بل عن اقتراحٍ للبديل، وعن إبداعٍ في الفعل أكثر من استهلاكٍ في القول.

ذلك هو الرهان الحقيقي: أن تتحول المعرفة إلى مقاومة، وأن يصبح الاحتجاج فعل تفكيرٍ مشترك، تتقاطع فيه إرادة التغيير مع وعي المعنى.

* مصطفى المنوزي

انقر للتعليق

الاكثر مشاهدة

Exit mobile version