في صباح غده استيقظت سمية مرهقة، وعلى نفس الأسئلة الحارقة ، بعد ان رافقها ، طوال الليلة ، عتاب بمثابة جلد للذات يؤنبها ؛ ولتفادي نظرات الجيران وفضولهم المحموم الذي سيظل يرافق كل خطوة من خطواتها، اضطرت لمغادرة منزلها باكرا .
وكانت ملامح الفجر غير مطمئنة لما قد تجود به توقعات الحياة الاجتماعية ؛ فانبلاج الصبح ، ذلك اليوم الموالي ، لم يعد رمزا لتباشير الخير والفأل الحسن ؛ فقد تحولت أشعة الشمس البريئة إلى قضبان قفص اتهام تدين بعيدا عن معايير المحاكمة العادلة ، بل إن دفء الشمس تراءى لسمية فزاعة في صورة أشباح تلاحقها بلا رأفة ، تقذفها بإسم مجتمع ذكوري ، حيث يعتبر فيه تبليغ الاستدعاء بمثابة وصمة عار ؛ فرغم أن سمية لم تكن قد ارتكبت أي جريمة، فإن مجرد وجودها في دائرة الاستفهام كان كفيلًا بتغيير نظرة الناس إليها، حتى في أعين أطفالها الذين بدأوا يشكّون في شيء لم يفهموه بعد ؛ إلا زوجها الوفي الذي تعقل ذاته وقرر تن يوفر الحماية والوقاية لزوجته ؛ لذلك ودون تردد وطول تفكير ، بادر إلى الإتصال بمحام قريب مكتبه من مقر العمل في وسط المدينة ، وحكى له بإختصار شديد عن واقعة إستدعاء سمية ، وما تداعى عنها ؛ فتكلفت كاتبة المحامي بتحديد موعد لأجل إستقبال سمية ؛ فأخبرت هذه الأخيرة من قبل زوجها ، وافقت بعد أن أكد لها صدقية وكفاءة هذا المحامي المعروف بنضاله السياسي والحقوقي ، محذرا إياها بألا تخلف الموعد ، رسمت نصف إبتسامة وكأنها تسخر من قدرها اللعين ، ما هذه الحياة المسيجة بتضخم الضبط والإنضباط ؛ طلب منها زوجها ألا تخلط بين دعوة المحامي وإستدعاء السلطة ! وكادت سمية أن تعتذر وتتخلى أوتتراخى عن زيارة المحامي ؛ كيف لا ، وهي لا تزال تحمل في قلبها ذلك الثقل الذي تركه الاستدعاء، كأنه ظل ملازم لها.
رغم مرور الساعات، فلم تتمكن من طرد التمثلات القهرية التي بدأت تتراكم في ذهنها مثل غيوم سوداء كثيفة في سماء حياتها. كانت كل كلمة، وكل إسترجاع لصورة من نظرات وهمسات جيرانها يؤلمها وكأنها تجدد جراح الصدمة ، أو كأنها تحمل وتحبل في بطن تخييلها الخصب حكاية جديدة، تتمخض عنها توليديا أجنة شائعات لا تنتهي، تتداولها الشفاه سرديات بنفخة أخلاقوية و بنكهة الأسئلة المحرِمة. “هل سمعتِ؟ سمية استُدعيَت!” كان ذلك الصوت الذي يقفز من باب لآخر، من جارة إلى أخرى، من فرد إلى آخر ؛ تتكرر الصور وتتماهى الأزمنة بنفس الإحساس حيث كان طيف تلك الورقة الزرقاء، التي كانت تبدو صغيرة جدًا، يلاحقها أينما ذهبت، حتى عندما كانت تجلس مع أطفالها ، أو عندما كانت تحاول إتمام بعضٍ من مهامها المنزلية الروتينية .
فلم يكن الاستدعاء مجرد ورقة، بل كانت قيدًا، قيودًا جديدة من النوع الذي تفرضه الرقابة على الذات كابوسا ؛ خاصة حين تجد نفسها في مرمى تهديد غير مرئي، فزاعة تهديد قد يأتي في أي لحظة ويغلق الآفاق التي كانت تظنها مفتوحة. ومع إلحاح الزوج وإصراره الشديد ، استسلمت فقررت ” الإمتثال ” اضطرارا لرغبة زوجها ومصلحتها المترددة .
و بينما كانت سمية تجلس في مكتب المحامي، لم تفارقها مشاعر القلق والتوتر ، بل ظلت كوسواس تتطاوس في الفضاء، لا سيما بعد أن طلب منها المحامي البوح بحكي تجربة الاستدعاء المريرة ، تلك الوثيقة التي قلبت حياتها رأسًا على عقب.
كانت تحكي له بحذر عن تفاصيل تجربتها، ولم يترك المحامي أي جزء من الموضوع دون تعقيب . في حديثه، بدأ يوضح كيف أن الاستدعاء ليس مجرد إجراء قانوني بسيط كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل هو أداة قوية وذكية تمثل تأثيرًا نفسيًا واجتماعيًا بالغ العمق.
“السيدة سمية، كما رأيت، الاستدعاء ليس مجرد طلب للحضور، بل هو في الأساس أداة تضييق وتهديد ذي وقع خفي “، بدأ المحامي حديثه. “في الظاهر، هذه الورقة تبدو عادية، ولكنها في الحقيقة تمثل بداية سَجنٍ نفسي طويل الأمد، يهدد بحرية الفرد ويخلق في داخله خوفًا مستمرًا من العقاب.” .
واسترسل المحامي: “في عالم القانون، الاستدعاء هو رمز للسلطة القانونية. لكن تأثيره يتجاوز مجرد الاحتكام إلى مخفر الشرطة أو تقديم شهادة ، وبمجرد أن تستلمي هذه الوثيقة ، فأنت تتعاملين مع تهديد قانوني فعلي ، إذا لم تمتثلي له، قد تواجهين عواقب قانونية شديدة.” كان المحامي يقصد أن الاستدعاء لم يكن إلا بداية لعبة نفسية، حيث تصبح كل خطوة قد تفضي إلى تهديداتٍ متتالية. ” غير أن الأهم، السيدة سمية، أن الاستدعاء يخلق نوعًا من الضغط النفسي المستمر”، قالها وهو يراقب ملامح سمية المشوشة. “السلطات تستخدم الاستدعاء كأداة لإجبار الشخص على التراجع عن سلوكياته أوترغمه حتى على التفكير في سلوكه الاجتماعي والمهني بشكل مفرط ؛ هذا ليس مجرد خوف من مخفر الشرطة، بل من فكرة الاستمرار في الرقابة، أو ربما العيش في حالة من القلق المستمر”.
سمية كانت تشعر بكلام المحامي وهو يلامس قلبها، خاصةً في ما يخص شعورها – كامرأة – بالتحكم والمراقبة المستمرة ، حيث تلسع نظرات المجتمع الذكوري جلدها وما تحت ملابسها العصرية الوقورة .
“ولكن السيدة سمية، الاستدعاء أيضًا يمتلك قوة رمزية هائلة. ورقة صغيرة قد تبدو عادية في نظر البعض، ولكن عندما تتعلق بقضية قانونية، تصبح ذات قيمة هائلة في لعبة السلطة”، تابع المحامي. “هذه الورقة تمثل رسالة مباشرة للشخص المستدعى، وكأن لسان حال السلطة يقول ” نحن نراقبك، نحن في انتظارك، كل خطوة تتخذينها قد تُقيّم وتُحكم’. وإن “الاستدعاء لا يقتصر على السلطة القانونية فقط، بل يتعداها ليصبح أداة للتحكم الاجتماعي”، إستطرد المحامي. “بمجرد أن يعرف الناس في المجتمع أنك استُدعيت، يشرعون في بناء صور ذهنية عنك. يبدأ المجتمع في مراقبتك، فينبغي عليك تعديل سلوكك بما يتناسب مع التوقعات الاجتماعية. وهذا يشبه حالة القهر الاجتماعي التي تحدث في ظل الخوف من الاستدعاء المتكرر، فيصبح الشخص مستعدًا لخفض نشاطاته الاجتماعية والمهنية لتجنب تلك الرقابة.” .
أحست سمية بعبء هذه الكلمات على قلبها، حيث كانت بالفعل قد لاحظت كيف بدأت حياتها تتغير منذ اللحظة التي استلمت فيها الاستدعاء ؛ رغم أنها غير منتمية سياسيا ولا حتى هي مسجلة في ناد للرياضة كفضاء عمومي !
“وكما ترين ، السيدة سمية، الاستدعاء لا يؤثر فقط على لحظة معينة في حياتك، بل يمتد ليؤثر على حياتك اليومية. هذا ليس مجرد استدعاء للحضور، بل هو بداية لتغيير قد يكون عميقًا في طريقة تفكيرك وتصرفاتك؛ فحتى إذا لم تكن هناك تبعات قانونية مباشرة، فإن التأثير النفسي والاجتماعي يظل حاضرًا”، قال المحامي. “الناس يبدأون في النظر إليك بشكل مختلف، وقد يتغير تصنيفك في محيطك الاجتماعي والمهني.”.
“وفي النهاية، السيدة سمية، قد تظنين أن السلاح النووي أو القوة العسكرية هي الأدوات الأكثر تدميرًا، ولكن أحيانًا، يكون التأثير النفسي الناجم عن الاستدعاء أكبر من أي شيء آخر ، بينما السلاح النووي يمكن أن يؤدي إلى تدمير فوري، يظل الاستدعاء يتسلل ببطء إلى حياة الشخص، ويغير كل تفاصيلها، دون أن يشعر بذلك، حتى يتحول إلى حالة دائمة من القلق والخوف.”.
في تلك اللحظة، بدأت سمية تدرك تمامًا ما قاله المحامي. نعم، الاستدعاء كان أداة بسيطة في ظاهره، ولكنه حمل معه مزيجًا من السلطة القانونية، والتأثير النفسي العميق، والرقابة الاجتماعية المستمرة. كان من المستحيل الهروب من تلك الدائرة المغلقة التي لا تترك مجالًا للراحة أو الأمان.
“فهمت الآن، يا محامي المحترم “، قالت سمية بصوت منخفض لكنها مليئة بالوعي الجديد “لقد كان الأمر أكثر تعقيدًا مما ظننت، وليس مجرد جنوح ارتكبته بإصدار الشيك. ؛ نه يتعلق بحريتي، بعلاقتي مع الناس، وبالطريقة التي يرى فيها الجميع هذا الاستدعاء.”.
“فعلا السيدة سمية، أنتِ الآن تفهمين أبعاد ما جرى، وهذا هو المهم، البداية من فهم هذه اللعبة النفسية والاجتماعية التي تفرضها السلطات، ومن هنا يمكننا وجب التفكير في صوغ مقاربة و خطة للدفاع عنك وحماية حقوقك، مهما كانت المعركة صعبة.”.
شعرت سمية بأنها تستعيد شيئًا من قوتها، شيئًا من الحس ” الكفاحي الجنيني ” الذي يمكنها من التعامل مع هذا التهديد النفسي والاجتماعي بذكاء أكبر. وبدأت تفكر في كيفية تحررها من دوامة الاستدعاء تلك، وكيف يمكنها أن تستعيد حياتها وحرية نفسها.
وبعد أن توافقا على نوع المسطرة والإجراءات ، نصحها بزيارة مختصة نفسانية ، ابتسمت وكأنها تسخر من تضخم خطاب العناية وسلطة الإهتمام القسري ، فظاهرة تسليم الذات / الجسد لمختلف أشكال الرقابة والرعاية ( العمومية القانونية والصحية ) تشبه إلى حد كبير “قوة السجن” كما وصفها ميشيل فوكو، حيث أن الشخص يبدأ في الشعور بأنه مراقب دائمًا، وبالتالي عليه أن يشرع في التحكم في سلوكه بنفسه .
عادت إلى ملاذها الأسري ، حكت ما جرى في مكتب المحامي ؛ فاقترحت عليها حماتها زيادة فقيه حرفي في “” الرقية الشرعية “” ، في حين نصحها زوجها بالأخذ بتوصية المحامي . وطبعا قررت اتباع نصيحة زوجها ، خاصة بعد أن زكت صديقتها توصية المحامي و “” لربما قد تحتاج سمية الملف الطبي لإثبات الضرر اللاحق بها “” واردفت الصديقة ، وهي أستاذة تعليم ثانوي تأهيلي ؛ بأنه “” بالفعل يمكن اعتبار توجيه الاستدعاء في بعض السياقات فزاعة خطيرة وتهديدًا نفسيًا قويًا قد يكون له تأثير مشابه في بعض الحالات إلى حصة تعذيب من حيث الأثر النفسي والضغط على الأفراد ؛ يعود ذلك إلى أن الاستدعاء، حتى وإن لم يتضمن إجراءات قانونية فعلية أو انتهاكًا جسديًا، فإن التهديد المرتبط به يمكن أن يكون مرهقًا نفسيًا ويؤدي إلى إجهاد عقلي شديد يشبه تأثيرات التعذيب النفسية ؛ خاصة في ظل عصر القوة الناعمة وتصريف السلطة السائلة ، حيث تحول الإستدعاء المتكرر إلى نوع من المطاردة الاحتيالية ؛ وهي ذريعة ” كالعنف المشروع ” تدفع ” المواطنين إلى الإعتقاد بأنهم ضمن قائمة ( المشتبه فيهم) والذين بقوة الواقع وإصراره وتكرراه يتحولون رقباء على أنفسهم ونشاطهم ؛ فتتحول سردية الإستدعاء إلى رقابة ذاتية وردع ذاتي وطوعي وقمع تلقائي يعتمد على عدة آليات نفسية واجتماعية ، تتداخل مع السردية الأمنية الموجهة ضد الأفراد ، هذه الآليات تؤدي إلى إخضاع الأفراد وتحفيزهم على الامتثال للقواعد أو الالتزام بالصمت خوفًا من العواقب المحتملة، حتى دون الحاجة إلى إجراءات قمعية مباشرة.
* (يتبع…) في الحلقة القادمة :
الإستدعاء ومأسستها كسردية أمنية