على مسؤوليتي

سرديات مصطفى المنوزي: هدم قسري لذاكرة غير آيلة للسقوط

نشرت

في

” سرديات رمضانية ”
الحلقة 21 :
مقاومة مأسسة سرديات هدم قسري لذاكرة غير آيلة للسقوط

ظل التقرير، رغم غموض كثير من المعطيات الواردة فيه يؤرق مضجع سمية ، فقد تأثرت كثيرا لفظاعة ما جرى ، فاستأذنت زوجها أحمد لكي يدعمها مرة أخرى في قضية ضحايا التعذيب ، اعتذر لها ، فهو مشغول ولديه مواعيد كثيرة . ويوم غذه ، وفي صباحٍ بارد من صباحات آذار، تجمعت ليلى مع صديقاتها سمية ومريم عند محطة الحافلات القديمة في الحي الذي نشأن فيه ؛ كان الجو مشحونًا برائحة الغبار والتراب، وكأن المدينة تستعد لحدثٍ كبير. فليلى، التي كانت دائمًا صاحبة الأفكار الجريئة، اقترحت عليهن زيارة صديقهن كريم العوني،( الذي اعتُقل منذ أشهر في أحد أكبر سجون العاصمة الاقتصادية) . لم تكن الزيارة مجرد محاولة لرؤيته والإطمئنان على صحته ، بل كانت أيضًا رحلة لاستكشاف ما يحدث في المدينة التي بدت وكأنها تتغير بسرعةٍ مخيفة.

عندما ركبن سيارة الأجرة، بدأت الرحلة بحديثٍ عابر عن الطقس والأخبار اليومية. ولكن سرعان ما انتبهت الفتيات إلى المشهد الذي كان يتكشف خارج النوافذ. على طول الطريق الساحلي، كانت هناك أوراش عمل ضخمة، ورافعات عملاقة تلتهم عماراتٍ كانت قائمة منذ عقود. كانت الجدران تتهاوى كأنها أوراقٌ يابسة، والغبار يتصاعد ليغطي السماء بستائر رمادية. لم تكن تلك مجرد عمليات هدم عادية، بل كانت أشبه بمحوٍ شاملٍ لمعالم المدينة.

“ما هذا الذي يحدث؟” سألت سمية، وهي تحدق في المشهد بذهول. “أين ذهب كل هؤلاء الناس الذين كانوا يعيشون هنا؟”.

لم تكن الإجابة واضحة. ولكن سائق السيارة، الذي بدا وكأنه يحمل في عينيه قصصًا كثيرة، بدأ يتحدث بصوتٍ خافتٍ مليء بالحزن. “هذه الأماكن كانت مليئة بالحياة، بالذكريات، بالناس الذين عاشوا هنا لعقود. ولكن الآن، يقولون إنها آيلة للسقوط، أو أنهم يريدون بناء شوارع جديدة تليق بمدينة ذكية”.

“مدينة ذكية؟” قاطعت مريم بدهشة. “هل الذكاء يعني محو الماضي؟”.

ضحك السائق بمرارة. ” هذا الذكاء أمني ،و هو هنا يعني أنهم يريدون أن ننسى. أن ننسى كل ما حدث هنا، كل الذكريات، كل القصص. هذه الأماكن كانت شاهدة على أحداثٍ كثيرة، على صراعات، على أحلام. ولكن الآن، يريدون أن يبنوا فوقها مدينة جديدة، مدينة لا تعرف شيئًا عن ماضيها”.

كانت كلمات السائق تثير في نفوس الفتيات شعورًا بالغضب والحيرة. سمية ، التي كانت دائمًا أكثر الفتيات تفكيرًا في القضايا الكبيرة، قالت: “هذا ليس مجرد هدم لعمارات، هذا هدم للذاكرة. إنهم يريدون أن يمحوا تاريخنا، أن يمحوا كل ما يجعلنا نذكر من نحن”.

عندما وصلن إلى السجن، كانت المشاهد التي رأينها في الطريق لا تزال تلاحقهن. كريم، الذي بدا عليه الإرهاق من فعل التعنيف، استقبلهن بابتسامةٍ حزينة. وعندما سألنه عن رأيه فيما يحدث، أجاب بصوتٍ خافت: “هذا ليس جديدًا. لقد فعلوا ذلك من قبل، بعد أحداث 1965 و1981 ، عندما قرر الصدر الأعظم معاقبة سكان المدينة عقابا جماعيا ، وقرر ترحيل أحياء بكاملها ، بدعوى أن أهالي ” شهداء كوميرا ” لم يربوا أولادهم مليا ؛ وهذه السردية الأمنية تتكرر في شكل ملهاة ؛ إنهم يزعمون بأنهم يريدون أن يبنوا مدينة جديدة، مدينة لا تعرف شيئًا عن المقاومة ومناهضة الظلم ، وعن الصراعات السلمية ، وعن الأحلام التي كانت هنا”.

كانت كلمات كريم تفتح أبوابًا جديدة من التفكير. ليلى، التي كانت دائمًا مهتمة بالتاريخ، قالت: “إنهم يريدون أن يمحوا كل ما يجعلنا نذكر من أين أتينا. ولكن الذاكرة لا تموت بسهولة. إنها تخلد فينا، في سردياتنا التاريخية ، في أحلامنا”.

اعتذرن لكريم فقد راغبت في معرفة التفاصيل عن التعذيب الذي تعرض له ، ولكن حالت واقعة الإعدام الذي تتعرض له الذاكرة الجمعية دون ذلك ، فأرشدهن إلى فاعل حقوقي سبق له أن صاغ تقريرا تفصيليا عما جرى له .

في طريق العودة، كانت الفتيات تتحدثن عن التغييرات التي تجري في المدينة، ولكن هذه المرة بنظرة نقدية أعمق. “إنهم يبنون مدينة لا تاريخ لها، مدينة خالية من الذكريات، مدينة لا تذكر ماضيها.” قالت مريم، وهي تحاول ربط الأمور ببعضها البعض.

أضافت ليلى، التي كانت دائمًا صاحبة الرؤية : ” لقد نقضوا توصيات هيئة الحقيقة المصالحة ، ولم يحفظوا الذاكرة ، وماعلينا سوى أن نحافظ على ذاكراتنا، على سرديتنا في مواجهة السردية الأمنية ؛ لأنها تحاول مأسسة النسيان ، أي تدفعنا و تجعلنا نتناسى من نحن ؛ من هنا لا يمكن للمدينة أن تُبنى فقط على أساس التحديث والتطور دون أن تحتفظ بما شيد جذورها وبنى أمجادها ، بما مرّت به. هذا ليس فقط هدمًا للأبنية، بل هو تخريب ومحاولة طمس لجزء من الهوية.”

توقف السائق عند أحد التقاطعات، وقال بصوت هادئ: “فعلا ، أحيانًا، تأتي التغييرات بشكل قسري. فبعض الأحياء القديمة تكون حاملة لذكريات قد تكون غير مريحة لبعضهم، تاريخًا قد لا يرغبون في تذكره. ولكن في النهاية، كل شيء يعود إلى ما يريده من يملكون السلطة في تشكيل هذا الواقع.”

عند وصولهم إلى نقطة النهاية، كانت الفتيات قد تخلّصن من حالة الحيرة الأولية، وحلّت مكانها مشاعر مختلطة من التمرد والوعي. هل يُمكن بناء المدينة الحديثة مع الحفاظ على ذاكرة الشعب؟ هل يمكن دمج ماضي المدينة مع حاضرها المتغير دون أن نفقد الأمل في المستقبل؟ “الذاكرة لا تموت”، قالت ليلى أخيرًا، وهي تُحدق في المستقبل بشغف، “وعلينا أن نتمسك بها، لأن الذاكرة هي ما يُشيد المدن الحقيقية.”
وفي طريق العودة، كانت الفتيات تتحدثن عن المستقبل، عن المدينة الجديدة التي يريدون بناءها، ولكن هذه المرة، مدينة تحمل في طياتها ذاكرة الماضي، مدينة تعرف من أين أتت، وإلى أين تريد أن تذهب ، لكن كيف في ظل غياب التشاركية المتبجح بها ؟ .

عندما التقى زوج سمية، أحمد، مع صديقه الصحافي ياسين، كانت الأجواء مشحونة بحديث الفتيات عن ما شهدنه في الطريق إلى السجن. أحمد، الذي كان يستمع باهتمام، بدأ يستحضر في ذهنه معطياتٍ عميقة حول ما يحدث في المدينة. ياسين، بصفته صحافيًا، كان يحمل نظرةً تحليليةً أكثر تفصيلًا، فبدأ يربط الأحداث بسياقاتٍ أوسع، مستحضرًا مفاهيم مثل “سيكولوجيا المال” و”سيميولوجيا محو الذاكرة”.

“ما يحدث ليس مجرد هدم لعمارات،” قال ياسين بصوتٍ هادئ لكنه حازم. “هذا اعتداء على الذاكرة، على الهوية، وعلى التاريخ. عندما تُنزع الملكية من الناس تحت ذرائع مثل التطوير أو بناء مدينة ذكية، فإنهم لا يفقدون فقط منازلهم، بل يفقدون جزءً من أنفسهم.”

أحمد، الذي كان يستمع بتركيز، أضاف: “هذا صحيح. المال والممتلكات ليست مجرد أشياء مادية. هي جزء من هوية الإنسان. عندما تُنزع الملكية، يشعر الناس بالاغتراب، وكأن جزءً من ذواتهم قد سُلب منهم.”
ياسين واصل حديثه، مستحضرًا مفهوم “سيكولوجيا المال”: “المال والممتلكات يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالهوية النفسية. عندما تُنزع الملكية، خاصة إذا كانت بطريقة غير عادلة، فإن الناس يشعرون بالظلم والخيانة. هذا ليس مجرد فقدان مادي، بل هو اعتداء على الذات. السلطة العمومية هنا تستخدم المال كأداة للتحكم، بل وكمبرر للاعتداء على حقوق الناس.”

أحمد أومأ برأسه موافقًا، ثم أضاف: “وهذا يقودنا إلى مفهوم ‘سيميولوجيا محو الذاكرة’. الأماكن التي يتم هدمها ليست مجرد جدران وأسقف، بل هي رموز تحمل ذكريات وتاريخ. عندما تُهدم هذه الأماكن، يتم محو جزء من الذاكرة الجماعية. هذا ليس مجرد تغيير في المشهد الحضري، بل هو محو للتاريخ والثقافة.”

ياسين، الذي بدا متحمسًا لتحليله، تابع: “بالضبط. الذاكرة الجماعية مرتبطة بالأماكن. عندما تُهدم الأحياء القديمة، يتم محو الروابط العاطفية والثقافية التي تربط الناس بتلك الأماكن. هذا ليس مجرد تغيير في الجغرافيا، بل هو تغيير في الهوية. إنهم فلول النظام البائد يبعثون نرجسياتهم الجماعية ، وبإسم سردية التقدم وإستخدام أمننة التحديث الحضري و التطوير كأداة لإعادة تشكيل الذاكرة الجماعية، لصياغة تاريخ جديد يخدم رؤيته.”

أحمد، الذي بدأ يفكر بشكل أعمق، قال: “في الصدد هناك عمليات واسعة للإعتداء على ملكية المواطنين ، وذلك بالشرعنة بإسم القانون ، ولهذا يختفون وراء قانون نزع الملكية من أجل المنفعة العمومية ؛ والأمر ليس في عمقه مجرد عملية اقتصادية أو قانونية، بل هو أداة للسيطرة النفسية والاجتماعية. عندما تُنزع الملكية، يتم تقويض ثقة الناس في النظام ، ويتم تدمير الروابط الاجتماعية التي تربطهم بماضيهم مقابل تعويضات زهيدة أومخارجات بواسطة اعتمادات أو عقارات إعادة إسكان دور الصفيح ”

ياسين أضاف: “وهذا بالضبط ما تريده السلطة العمومية . عندما يتم محو الذاكرة الجماعية، يصبح من السهل إعادة تشكيل الهوية وفقًا لرؤية إستئصالية مع الجذور . هذا ليس مجرد تطوير حضري، بل هو إعادة هندسة اجتماعية وسياسية.”

أحمد، الذي بدا وكأنه يربط كل الخيوط، قال: “إذن، ما يحدث هو أكثر من مجرد هدم لعمارات. هو اعتداء على الذاكرة، على الهوية، وعلى التاريخ. النظام هنا يستخدم التطوير كأداة لشرعنة الاعتداء على حقوق الناس، وعلى ذاكرتهم الجماعية.”

أومأ ياسين برأسه، ثم قال: “وهذا هو الخطر الحقيقي. عندما يتم محو الذاكرة، يتم محو تاريخ المقاومة التي واجهت المعمرين في عهد الحماية . الناس الذين يفقدون ذاكرتهم الجماعية يصبحون أكثر عرضة للسيطرة. هذا ليس مجرد تغيير في المدينة، بل هو تغيير في المجتمع.”

تدخل أحد المارة وعلق عابرا بكلام عابر :” قد تكون السلطة على حق ولكن لا ينبغي التعسف في إستعمال الحق ” .

شكراه معا واعتبرا كلامه عميقا وليس عابرا ، فقد شعر أحمد وياسين بأن الرسالة وصلت ؛ ثم أردف ياسين بأن لديه وثائق شفاهية ومكتوبة حول سرديات محو الذاكرات ، تدون فظاعات أفظع مما يجري في حق المدينة ، فالمدينة ليست فقط عبارة عن إصطفاف عمارات وبنايات ولكنها عبارة عن فوارق و مفرقات ، لذلك لم يعد الأمر مجرد هدم لعمارات، بل هو معركة وصراع تنافسي وتناري حول الذاكرة، وعلى الهوية، وطبعا بالنتيجة صراع حول من يملك المستقبل.

وفي خضم هذا الفهم، أدركا أن المقاومة ليست فقط في الحفاظ على الأماكن، بل في الحفاظ على الذاكرة، على السرديات ، وعلى التاريخ الذي لا أساس له دون ذاكرة حية بوقائعها ومواقعها ؛ وانهى ياسين حديثه مقترحا على صديقه أحمد زيارته ببلدته في الريش كي يمده بما يفيد فضوله ويطفئ ظمأه المعرفي الشديد بمياه دافقة حول الذاكرة والأرشيف والتاريخ جرت فوق الجسر وتحته تحت أعين جيل القنطرة الذي سيظل يردد لازمة ” كان يا ما كان ” المتلازمة .

* مصطفى المنوزي

انقر للتعليق

الاكثر مشاهدة

Exit mobile version