على مسؤوليتي

سرديات رمضانية : مأسسة تضخم خطاب سردية الإستدعاء الأمني(3)

نشرت

في

وصلت سمية إلى مقر العيادة النفسية ، حجزت مكانها في قاعة الإنتظار متأبطة محفظتها والدور رقم 13 ؛ وهي تنتظر ، فضلت أن تشغل فكرها بشيء ما حتى لا تحتضر .

تذكرت بأنها عندما كانت تستمع بتركيز إلى الرجل المتقاعد، وكأن كل كلمة يقولها تلامس جرحًا عميقًا في داخلها، و بالخصوص شرحه لمفهوم القمع الناعم ولمفهوم القوة السائلة، وكانت قد طلبت من شابة تجلس بجانبها أن تشاركها ااحديث في ااموضوع ، فبادرت و سألتها بصوتٍ خافت، وكأنها تخشى أن تسمع الإجابة: “لكن في ظل كل هذه التحولات الرقمية والتكنولوجية، هل ما زال للاستدعاء نفس الوقع المؤثر؟ أليس العالم قد تغير؟”.

ابتسمت الشابة بهدوء، والتي يبدو أنها طالبة باحثة ذكية إجتماعيا ؛ وكأنها توقعت هذا السؤال ؛ قالت : “في ظل التحولات الجارية، بما في ذلك التغيرات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية، لا يزال الاستدعاء يحتفظ بوقعه المؤثر، بل قد يكون تأثيره أقوى في بعض الحالات.” وهمست لها قد سبق لها أن مرت من تجربة قاسية هي الأخرى ، ولذلك فهي هنا لكي تتلقى حصصا من تمارين إعادة التأهيل النفسي .

حدقت سمية فيها بفضول، وكأنها تريد أن تفهم أكثر ، ولأن المقام لم يكن ليسمح واصلت الشابة كلامها لكن دون عموميات : “التكنولوجيا، على سبيل المثال، أصبحت أداة قوية للمراقبة والرقابة ، و اليوم، يمكن أن يرتبط الاستدعاء بمراقبة رقمية ؛ هم يراقبونك عبر الإنترنت، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى عبر هاتفك الذكي ؛ و الاستدعاءات الإلكترونية قد تكون أسرع وأكثر انتشارًا، مما يخلق شعورًا دائمًا بالتهديد النفسي والمراقبة.”
همست سمية : “إذن، التكنولوجيا لم تقلل من تأثير الاستدعاء، بل زادته وقعا ؟”.

كانت قد أجابت : “بالضبط. في الماضي، كان الاستدعاء يقتصر على ورقة تصل إليك بالبريد أو عن طريق الشرطة. اليوم، يمكن أن تصل إليك رسالة استدعاء عبر البريد الإلكتروني أو حتى عبر رسالة نصية. هذا النوع من الاستدعاءات الرقمية يجعل التهديد أكثر قربًا، وأكثر إلحاحًا.” ثم أضافت : “وفي الأنظمة الاستبدادية، قد يزداد تأثير الاستدعاء ، هم يستخدمونه كأداة ترهيب وقمع مستمرة للمعارضين أو نشطاء حقوق الإنسان ، وهكذا تصبح الاستدعاءات أكثر تكرارًا، وتُستخدم كوسيلة للتأثير النفسي، مما يعزز التأثيرات السلبية على الأفراد.”
وهنا تذكرت سمية أن صديقتها سبق وأن سألت زوجها : “” أليس هناك وعي أكبر الآن؟ أليس الناس أكثر إدراكًا لحقوقهم؟”.

وقد أجابها زوجها : “نعم، في بعض المجتمعات التي تشهد تطورًا في الوعي السياسي والحقوق المدنية، قد يبدأ الأفراد في التعامل مع الاستدعاء بطرق مختلفة. بعضهم قد يتحدى الاستدعاء، أو يلجأ إلى القضاء للدفاع عن نفسه. التضامن الاجتماعي والدعم من المنظمات الحقوقية قد يقلل من تأثير الاستدعاء على بعض الأفراد.” .

وهنا عادت الشابة الباحثة لتؤكد لسمية : “لكن الرهان اليوم على لإعلام الحر ووسائل التواصل الاجتماعي المستقلة ، يمكن أن يلعبوا دورًا مزدوجًا. من ناحية، يمكن أن يُسهم الاستدعاء في إثارة الوعي العام حول القمع أو الانتهاكات. مما يجعل هذا النوع من الاستدعاءات أقل سرية ويعرض السلطات إلى مراقبة المجتمع الدولي. ومن ناحية أخرى، قد تصبح الإستدعاءات موضوعًا للنقاش العمومي على الإنترنت، مما يساهم في إضعاف تأثيرها النفسي على الأفراد المستهدفين، حيث يمكن أن يتلقوا ويستقطبوا دعمًا مشروعا من المجتمع المحلي أو الدولي.”.

أطرقت سمية برأسها، وكأنها تحاول استيعاب كل ما سمعته. ثم سألتها : “وماذا عن القانون؟ أليست هناك حماية قانونية أكثر الآن؟”.

أجابت الطالبة الباحثة : “في بعض الدول الديموقراطية ، نعم. حيث إنه مع تطور الأنظمة القانونية، قد يكون هناك حماية قانونية أكثر للأفراد ضد الاستدعاءات التعسفية؛ وبالتالي فالرقابة والشفافية تجاه إجراءات الأجهزة الأمنية قد تقلل من تأثير الاستدعاء كأداة قمعية، حيث يمكن للأفراد الدفاع عن أنفسهم قانونيًا ضد الاستدعاءات غير المشروعة.”.

ثم أضافت : “لكن في حالات أخرى، قد يتم تسخير بعض النظام القضائي بشكل غير نزيه، مما يجعل الاستدعاء أداة تستخدم لتوجيه الضغط النفسي على الأفراد خارج نطاق الإجراءات القانونية العادلة.”و شعرت سمية بثقل الكلمات وهي تستقر في وعيها. سألتها مرة أخرى : “إذن، ما الذي يمكنني فعله في نظرك ؟ كيف أتعامل مع كل هذا؟”.

أجابت الشابة : “أولًا، أن تفهمي أن الاستدعاء هو جزء من لعبة أكبر. هم يريدون أن تشعري بالخوف، بالقلق، بالعجز. لكن معرفتك بهذه الآليات هي الخطوة الأولى نحو مقاومتها.” ثم أضافت : “ثانيًا، حاولي أن تبحثي عن دعم ، سواء من المنظمات الحقوقية، أو من المجتمع المحلي، التضامن الاجتماعي يمكن أن يكون سلاحًا قويًا ضد المطاردة الإحتيالية .”.

نظرت سمية إليها بامتنان، وكأنها وجدت بصيص أمل في كلماتها . “شكرًا لك،” قالت بصوتٍ خافت. “لقد ساعدتيني على فهم الكثير.”.

إبتسم الشابة بهدوء ، “العفو، السيدة سمية. المهم ألا تستسلمي للخوف، الخوف هو ما يريدونه منك، لكن مقاومتك هي ما يمكن أن يغير اللعبة.”.

اقفلت سمية قوس الإنتظار والمحادثة و التذكر والإسترجاع وواصلت التفكير في كل ما سمعته وتلقته من معلومات منذ توصلها بأول إستدعاء ، كانت تعرف أن الطريق أمامها لن يكون سهلًا، لكنها أيضًا بدأت تدرك أن مقاومة الخوف، حتى لو كانت فتيةو صغيرة، هي الخطوة الأولى نحو استعادة اعتبارها و حريتها ، لكن وهي تسترجع مرة أخرى ما جرى من حوار بينها وزوج صديقتها قبل مجيئها للعيادة ، لاحظت بأن الرجل كرر أكثر من مرة عبارة ” سرديات أمنية ” ؛ وعوض أن تسأل الطالبة الباحثة فضلت أن تتصل بالمحامي هاتفيا ؛ والذي استسمحته (معتذرة عن الإزعاج ) في إستشارة حول معنى ” السرديات الأمنية” وهل لها نفس معنى السرديات الأدبية .

فقال المحامي بنبرة الإعتزاز بالذات لكن بتواضع العارفين “” لن يكفي الوقت للإجابة ، ولا حتى التواصل بالهاتف قد ينفع ! ” ألحت مصرة لمعرفة المعنى ولو في جملة واحدة ؛ فقال لها بنفس النبرة السابقة “” المهم أن السرديات الأمنية ليست مفهومًا أدبيًا بالمعنى التقليدي، بل هي مفهوم سياسي واجتماعي يتم استخدامه بشكل أساسي في الدراسات الأمنية والعلوم السياسية والحقوقية؛ ” وهنا اعتذر المحامي وتمنى لسمية تمام الصحة وطيب النقاهة .

حاولت سمية إخفاء الإحراج والتفت نحو الشابة الباحثة قائلة ” حقا الكل يعاني من فوبيا التنصت ، هل لك ان تشرحي لي بتدقيق ماذا تعنيه السرديات الأمنية ؟ ” ودون تردد قالت الباحثة “” إن السرديات الأمنية كتعريف أولي يقصد بها القصص أو الأطر الرمزية التي يتم بناؤها حول قضايا تتعلق بالأمن، والتي تهدف إلى تشكيل الوعي العام حول المخاطر والتهديدات التي قد تواجه المجتمع أو الدولة، وإن هذا المفهوم يستخدم لتفسير كيف يتم عرض الأمن أو التهديدات الأمنية على أنها جزء أساسي من هوية المجتمع، وكيف تُستخدم هذه السرديات من جهة ثانية لتبرير سياسات معينة، مثل إجراءات الطوارئ أو الرقابة أو التدخلات العسكرية . “”.

لم تستوعب سمية كل ما بسطه المحامي ولا ما فاهت به الطالبة الباحثة ؛ ابتسمت وشكرتها جزيلا ، بنفس الحجم والقدر الذي شكرت به المحامي على مرافعته القيمة والمنتجة لمزيد من التعطش لمعرفة سر هذا المفهوم أو المصطلح ، لا فرق بالنسبة إليها ! .

وأخير وصل دورها ونودي على سمية لكي تدخل قاعة الفحوصات .

* (يتبع …) الحلقة 4 : الإستدعاء من المأسسة إلى الأمننة

انقر للتعليق

الاكثر مشاهدة

Exit mobile version