في التاسع والعشرين من أكتوبر 1965، اختُطف المناضل المهدي بنبركة في قلب باريس، في واحدة من أكثر القضايا إيلامًا في تاريخ المغرب السياسي الحديث.
واليوم، بعد مرور ستين سنة على تلك الواقعة، يلتقي الزمن الرمزي بالتاريخ القانوني: فالمهلة التي يحددها القانون المغربي لرفع السرية عن الوثائق المرتبطة بـ“أسرار الدفاع الوطني” و“أمن الدولة” قد انقضت.
لكن السؤال ما زال معلقًا في الهواء: هل ستفتح الدولة أرشيفها أم ستُمدِّد زمن الصمت؟.
وهنا يأتي دور الحقوقيين والمؤرخين وذوي حقوق الضحايا للنضال من أجل كشف الحقيقة من خلال إجبار الدولة على رفع السرية .
ذاكرة مؤجلة وزمن أمني
ينص القانون على أن الوثائق ذات الطابع الأمني والسيادي لا يمكن الاطلاع عليها قبل مرور ستين سنة.
إلا أن مرور هذا الأجل لا يعني بالضرورة رفع السرية فعليًا، إذ غالبًا ما يُمدَّد المنع أو يُعاد تأويل مفهوم “السرية” بما يخدم منطق الحجب.
هكذا يتحول الزمن إلى أداة لتأجيل الحقيقة، لا لاكتشافها، وتتحول الذاكرة إلى ملف إداري خاضع للمزاج السياسي أكثر مما تخضع لمبدأ الحق في المعرفة.
الستون سنة، في هذه الحالة، ليست رقمًا جامدًا، بل حدًّا رمزيًا بين جيل الشهود وجيل الباحثين عن الحقيقة.
ومع تقادم الشهود، تتقادم إمكانيات العدالة، فتُختزل القضايا في الشعارات بدل التوثيق والمكاشفة.
الأمن لا يعني السرية الدائمة
إن مفهوم “أسرار الدفاع الوطني” يجب ألا يُستعمل لتبرير طمس الذاكرة أو حجب الوقائع ذات الصلة بانتهاكات حقوق الإنسان.
فالأمن، في معناه الحديث، لا يقوم على الخوف من الحقيقة، بل على الثقة في قدرتنا على مواجهتها.
والكشف عن الأرشيف لا يُهدد الدولة، بل يحصّنها من تكرار الأخطاء ويمنحها شرعية أخلاقية أمام مواطنيها.
فالحق في الحقيقة جزء لا يتجزأ من الأمن الإنساني، كما تنص على ذلك المواثيق الدولية وتجارب العدالة الانتقالية.
من أمننة الأرشيف إلى دمقرطة الذاكرة
إن استمرار حجب الأرشيف المتعلق بالاختفاءات القسرية والملفات السياسية القديمة، وعلى رأسها قضية المهدي بنبركة، يضع المغرب أمام مفارقة تاريخية:
هل نريد أن نبرهن أننا تجاوزنا منطق الدولة السرّية، أم أننا نعيد إنتاجه في صيغ جديدة؟
إن فتح الأرشيف أمام الباحثين والمؤرخين وأسر الضحايا يشكل خطوة حقيقية نحو حوكمة الذاكرة، أي نحو إدارتها بشفافية ومشاركة، بدل الاكتفاء بتدبيرها بخلفية أمنية.
فالذاكرة الوطنية لا تُبنى على الحجب، بل على المشاركة في استحضار الماضي وفهمه، بما يسمح بتحويل الألم إلى معرفة والمأساة إلى درس.
من بنبركة إلى المانوزي: سؤال الحقيقة المستمر
رفع السرية عن قضية بنبركة لن يكون مجرد إجراء إداري، بل اختبارًا للضمير الوطني وقدرة الدولة على المصالحة مع ماضيها.
فالحقيقة لا تُهدد الاستقرار، بل تُرسخه على أسس الثقة والشفافية.
وإذا كانت الذكرى الستون لاختطاف المهدي بنبركة تذكّرنا بما لم يُقل بعد، فإنها تفتح أيضًا باب السؤال الأخلاقي المفتوح:
فهل سننتظر مرور الأمد نفسه لكي تُرفع السرية عن حقيقة اختطاف المناضل الحسين المانوزي من تونس منذ 29 أكتوبر 1972؟.
إن ستين سنة من الصمت تكفي لتقول إن الحجب لم يعد يحمي الدولة، بل يجرّدها من ذاكرتها.
لقد آن الأوان للانتقال من حراسة الماضي إلى المصالحة معه، ومن أمننة الأرشيف إلى دمقرطة الذاكرة، لأن الحقيقة، في نهاية المطاف، ليست ضد الوطن، بل من أجل أن يبقى الوطن قابلاً للتصالح مع ذاته.
. مصطفى المنوزي
منسق دينامية ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية