اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، أشعر بثقل الفراغ، الذي تركه رحيلك يا مصطفى. فراغ يفرم الروح والأعصاب لمجرد التفكير أنني لن أراك، لا بعد قليل ولا غدا ولا بعده.. هو فراغ على مستوى الذاكرة اليومية، لكنه فراغ يمتد في المشهد السياسي وفي الحياة التي رافقتنا عقودًا. كنت بالنسبة لي أكثر من صديق، كنت مثالًا للالتزام بالمبدأ، للصدق مع النفس قبل الآخرين، وللشجاعة في مواجهة كل ما هو زائف أو متخاذل. كنت الإنسان الذي يعرف قيمة الكلمة والتضحية، ويعطي لكل لحظة من عمره معنى، ويجعل من كل نقاش فرصة لتعليم من حوله معنى المسؤولية.
ولدتَ في أولاد احريز التابعة لمدينة برشيد سنة 1955، في أسرة عرفت بالجدية والاجتهاد. كانت طفولتك هناك، في الحقول والأزقة الضيقة، مصدرًا لبصيرة فريدة حول الحياة، وبذرة لوعي سياسي واجتماعي سيكبر معك ويكبر بك. منذ تلك الأيام، كنتَ تبحث عن العدالة، عن معنى التضحية، عن قيمة المبادئ قبل أي اعتبار آخر. كنت تحكي لي كيف أن مشاهدة الواقع البسيط في القرية حفزك على رفض الظلم مهما كان صغيرًا، وأن إدراكك للفوارق الاجتماعية كان بداية لفكر نقدي لا يهدأ.
تخرجتَ من المدرسة المحمدية للمهندسين (EMI)، وحملت الهندسة ليس فقط كاختصاص أكاديمي، بل كعدسة لتحليل الواقع وربط النظرية بالممارسة. كنت تقول لي دائمًا إن العلم والأخلاق متلازمان، وأن أي نضال بلا معرفة يكون ناقصًا، وأي معرفة بلا التزام يكون بلا روح. وقد ظل التزامك رفيقك طوال حياتك: في النقابة، في الحزب، في السجن، وحتى في آخر أيامك…
كان حضورك في منظمة “إلى الأمام” الماركسية علامة فارقة للجيل الثاني في ثمانينيات القرن الماضي، جعل منك واحدًا من أبرز الوجوه في اليسار الراديكالي المغربي. حكم عليك بالسجن لمدة 20 سنة، قضيتَ منها تسع سنوات خلف القضبان، لكنها لم تكسر إرادتك. وكنت تقول وتردّد، إن الحرية ليست مجرد تحرر من القيود المادية، بل هي التمسك بالمبادئ والكرامة، وأن السجن قد يحجز الجسد لكنه لا يستطيع أن يقيد الفكر.
ومن سجلك النقابي إلى قيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (CDT)، كنت الصوت الصارم للطبقة العاملة، تدافع عن حقوقهم بلا تردد، وتواجه كل محاولات التلاعب والابتزاز السياسي. كنت تحكي لي عن الاجتماعات الطويلة، عن الخلافات التي تنشب في النقابات، وعن المعارك الصغيرة التي كثيرًا ما تكون أقوى من المعارك الكبيرة، لأنها تختبر التزام الإنسان بالمبادئ.
وفي النصف الثاني من التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، لم يكن خافيا طموحُك في تجميع قوى اليسار الراديكالي لتأسيس حزب النهج الديمقراطي، وتثبيت قواعده. ومنذ ذلك الحين، كنت توازن بين الفكر والعمل، بين الالتزام بالمبادئ والممارسة العملية.
كنتَ دائمًا حادّ الذكاء، لا تقبل التهاون ولا المساومة على المبادئ. وكانت كلماتك في التجمعات والتظاهرات صرخة ضد كل من ينسى قيم الالتزام والمسؤولية. وكأنك كنت تؤكد لنا: المبادئ لا تتجزأ، والمسؤولية لا تساوم، والعمل السياسي الحقيقي لا يُمارس من أجل المصالح الشخصية أو المكاسب الفارغة. كنت ترفض أن يكون اليسار مجرد شعار، وكنت تحرص على أن يكون كل نقاش، وكل مشروع، وكل حركة، انعكاسًا صادقًا لفكر ملتزم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
وكان لديك جانب إنساني ساحر، لم تتركه للنضال وحده. كنت تعرف كيف تجعل كل نقاش سياسي فرصة للضحك والدفء، كنت تستمع بعناية، وترد بكلمات تُشعر من حولك بأنهم مفهومون ومقدّرون. كنت تحكي لي عن ذكريات الطفولة في أولاد احريز، عن أصدقاء الدرب، عن لحظات بسيطة كانت تحمل في طياتها دروسًا في الحياة والسياسة معًا. كنت دائمًا تقول: “النضال بلا روح حميمية، بلا معرفة الإنسان، يصبح مجرد صوت في الصمت”.
وذلك ما كان يحكيه عنك كل الرفاق الذين عاشروك، كما في الحوارات الطويلة معنا، كنت تصرّ على تعليمنا أن الالتزام بالمبادئ يجب أن يمتد ليشمل كل أفعالنا اليومية، وأن العمل السياسي ليس شعارًا أو انتهازية، بل اختيار دائم ومسؤول.
لقد رحلت اليوم، لكنك لم ترحل حقًا. ستظل حاضرًا في كل فكرة صحيحة، في كل موقف شجاع، في كل محاولة لاسترجاع الكرامة للسياسة المغربية، وفي كل مواجهة للفساد والغبن. رحلت جسدًا، لكن روحك وأفكارك ستظل معنا، وستستمر في إلهام كل من يسعى إلى الحرية والعدالة والمبادئ.
مصطفى، صديقي العزيز، لقد عشتَ كما كنت تفكر، ورحلتَ كما يليق بالكبار… رحل البراهمة وشيء من دفء الرفقة القديمة انطفأ في داخلي، فأنا أتحدث عن رفيق وصديق نادر كان يكفي أن يجلس قبالتك، بعينين تشعّان صفاءً وهدوءًا، لتشعر أن العالم يمكن أن يكون أجمل وأفضل، وليفتح أماك النظر بسعة الحلم، الذي يخترقنا جميعا حتى اللحم والعظم والشحم والدم: الحلم بمغرب جديد ديمقراطي كريم وعادل وأساسا سعيد…
لقد قاوم السرطان بصمت، كما قاوم الظلم في شبابه. لميشتكِ، لم يساوم، ولم يبحث عن تعاطف. كان، حتى في مرضه، منضبطًا كما لو أنه يكتب تقريرًا سياسيًا دقيقًا عن جسده.
حين كنت أتواصل معه في الشهور الأخيرة، كان يردّ بابتسامة: “أنا بخير، لا تقلق عليّ، فقط قل لي كيف حال البلاد؟”… كأن الوطن كان بالنسبة إليه أهمّ من صحته.
اليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، أدرك أن جيلاً بكامله يغادرنا تباعًا، جيلٌ حمل الحلم على كتفيه وواجه الاستبداد بصدور عارية، جيلٌ كان يختلف معنا ومع نفسه، لكنه لم يبع نفسه.
برحيل البراهمة، يفقد اليسار المغربي أحد رجالاته الذين جمعوا بين الفكر والخلق، بين المعارضة والاتزان، بين الإيديولوجيا والإنسانية.
صديقي العزيز مصطفى،
ما زلت أسمع صوتك الهادئ، وأراك تمشي بخطواتك الواثقة، وابتسامتك المحبوبة، كأنك تقول لنا: “لا تحزنوا، المهم أن تظل الفكرة حيّة”. نم قرير العين يا رفيق الحلم. لم تدّعِ البطولة، لكنك كنت رجلًا نادرًا في زمنٍ يندر فيه الرجال. ولذلك قلتُ وأردّد بكل حب واعتزاز وإكبار: لقد عشت كما تفكّر، ورحلت كما يليق بالكبار.