على مسؤوليتي

نقد تفكيكي لسرديات الإنقاذ في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي

نشرت

في

لم يكن “الخلاص” في السياق الفلسطيني-الإسرائيلي مجرد طموح سياسي، بل تموضع كسردية خلاصية تحاكي الميثولوجيا وتختزل التعقيد في منقذ موعود أو حدث مفصلي فاصل. فمن جهة، شُحن المشروع الصهيوني بوعد ديني-حداثي مزدوج: استعادة الأرض وبناء دولة ديمقراطية. ومن جهة مقابلة، تأسست الحركة الوطنية الفلسطينية على وعد التحرير الكامل، ثم تراجعت تدريجيًا نحو مفاوضات تُدار بمنطق الممكن لا العادل. هذا التوتر بين المثال والواقع، بين الرمز والبنية، قاد إلى انسداد ثلاثي الأبعاد: استراتيجي، سردي، ووظيفي.

أولًا: تاريخية الخلاص وتحولاته البنيوية
1. الصهيونية: خلاص بالتطهير والتفوق
سردية الضحية المتفوقة: المشروع الصهيوني يستبطن مفارقة “الضحية المتفوقة” التي تجمع بين ادعاء الاضطهاد الأخلاقي وامتلاك أدوات السيطرة العنيفة. وهو ما أنتج مفهوما “للدفاع الوقائي” يشرعن الهجوم المستمر.
التأسيس على الأسطورة: استُثمرت سردية “الخروج من الشتات” كأساس لشرعنة الطرد والإحلال، بتكثيف رموز “العودة إلى أرض الميعاد” و”إحياء العبرية” و”الأمن الذاتي” كمقومات خلاص قومي.
التناقض البنيوي بين الديمقراطية والإثنية: سعي إسرائيل لتعريف نفسها “كدولة يهودية وديمقراطية” هو تناقض لا يمكن تسويته. قانون القومية (2018) ليس سوى تتويج قانوني لمسار تمييزي طويل.

2. الفلسطينيون: من التحرير إلى البقاء
سردية الارتباك: انتقلت القضية من خطاب قومي تحرري إلى خطاب إداري/حقوقي يركّز على المعيش اليومي في ظل انسداد الأفق السياسي. المقاومة، بدل أن تكون أداة تحرر، أصبحت أداة تعبئة رمزية.
ازدواجية في المشروع الوطني: بين منطق “الدولة” الذي تسعى له فتح، ومنطق “التحرير” الذي تتبناه حماس، ضاعت بوصلة المشروع الجمعي، وتحوّل الانقسام إلى بنية حكم.
فقدان الجدوى الرمزية للقيادة: الانفصال الجغرافي (غزة/الضفة)، والسياسي (فتح/حماس)، والشرعي (تجميد الانتخابات)، فاقم من حالة فقدان الثقة في القيادة كمصدر خلاص.

3. المجتمع الدولي: وساطة بلا ضمير
تحييد البعد الأخلاقي: الخطاب الدولي تفادى المساءلة واكتفى بـ”إدارة النزاع”. عملية أوسلو حولت المحتل إلى “شريك سلام”، وغُيّب البعد الاستعماري للنزاع.
الشرعنة التقنية للاحتلال: آليات التمويل الدولي (UNDP، USAID، إلخ) خلقت اقتصادًا مموّلًا يرسّخ التبعية، وأنتجت بيروقراطية فلسطينية تخدم الاستقرار أكثر من التحرير.

ثانيًا: تفكيك الإخفاقات وصناعة الانسداد
1. الردع المستحيل ومأزق المقاومة
غياب التكافؤ الإستراتيجي: إسرائيل تملك تفوقًا نوويًا وتكنولوجيًا، بينما المقاومة الفلسطينية، رغم رمزيتها، محكومة بالتكرار والتكلفة الإنسانية الباهظة.
المقاومة بوصفها طقسًا سياسيًا: تحوّلت المقاومة المسلحة إلى أداة لتجديد الشرعية الداخلية لا وسيلة لتحقيق هدف التحرير، مما يفرغها من بعدها الإستراتيجي.

2. اقتصاد الاحتلال: ربحية العنف
تدويل المعاناة كأداة للربح: القطاع الأمني الإسرائيلي يصدر أدوات قمعه كتجربة ميدانية تم اختبارها على الفلسطينيين.
تحكم استعماري عبر التمويل: رُبطت “المساعدات” الدولية بشروط تخدم أمن إسرائيل، مثل التنسيق الأمني وبرامج التأهيل التي تُقصي البعد السياسي للقضية.

3. الهندسة الديموغرافية وإعادة إنتاج الصمت
التهجير كسياسة ناعمة: القوانين تُستخدم كأدوات تفريغ سكاني ممنهج (منع لم الشمل، سحب الهويات، تقييد البناء).
سردية “الديمقراطية المحاصَرة”: تُوظّف المخاوف الديموغرافية في إسرائيل لتبرير الفصل العنصري، بدعوى الحفاظ على “الطابع اليهودي”.

ثالثًا: من الخلاص إلى الحق – تفكيك المقدّس وتحرير المعنى
1. تفكيك بنية “الحل” الوهمي
ما بعد الدولة/الدولتين: يجب تجاوز الجدل العقيم بين حل الدولتين والدولة الواحدة، والتركيز على ضمان الحقوق غير القابلة للتصرف، كأفق تحرري جديد.
استعادة الإنسان كمركز للسردية: الفلسطيني ليس “مشروع دولة مؤجلة” بل هو ذات حرة تستحق المواطنة والعدالة والكرامة، سواء داخل فلسطين أو في الشتات.

2. ابتكار أدوات مقاومة معرفية وقانونية
تحويل المعاناة إلى معرفة: التوثيق الحقوقي يجب أن يُبنى كذاكرة استراتيجية، لا فقط كأرشيف للضحايا، بل كأداة لتحرير الخطاب.
قوة المقاطعة الرمزية: حركة BDS وأمثالها تُعيد تعريف النضال بوصفه فعلًا كونيًا ضد العنصرية، وليست مجرد تكتيك ضغط.

3. إعادة بناء الذات الوطنية كمشروع أخلاقي
من الانقسام إلى الميثاق الجمعي: استعادة الشرعية لا تمر عبر الانتخابات فحسب، بل تتطلب إنتاج ميثاق وطني مدني جامع يعيد تحديد العدو والغاية.
عدالة انتقالية توقعية: لا يكفي طلب العدالة للماضي، بل يجب بناء سردية مستقبلية تحرر المخيال الفلسطيني من الحنين وتمنحه أدوات التخيل والإبداع السياسي.

خاتمة موسعة: المعنى بدل الخلاص
ليست القضية اليوم مسألة خلاص جماعي أو انتظار حدث فاصل، بل ممارسة نقد جذري تزعزع البنية التي تنتج الاستلاب، سواء تمثل في الاحتلال أو في التواطؤ الداخلي أو في الصمت الدولي. فالتحرر ليس حالة استثنائية نبلغها، بل هو ممارسة يومية تستعيد الإنسان وتعيد بناء المعنى.

وفيما يخص البديل نقترح كمحاولة المغامرة بمقاربة نقدية لمفهوم العدالة الانتقالية في الحالة الفلسطينية، ضمن منظور يتقاطع مع تحليل بنية الاحتلال وانسداد الأفق التحرري، ويستحضر خصوصيات السياق الفلسطيني مقارنة بالتجارب الكلاسيكية للعدالة الانتقالية:

أ – مقدمة: عدالة بلا انتقال؟
تقوم العدالة الانتقالية تقليديًا على مبدأ الانتقال من حالة نزاع أو استبداد إلى نظام ديمقراطي يعترف بالضحايا ويُحاسب الجناة. لكن في السياق الفلسطيني، تطرح هذه الفرضية إشكالات جوهرية، إذ لا وجود لـ”نظام سابق” يُحاسَب، ولا انتقال فعلي نحو السيادة، بل استمرارية استعمارية تتجدد بتقنيات حديثة، وبموافقة دولية ضمنية.

أولًا: إشكالية المفهوم في ظل استعمار مستمر
1. غياب الدولة المستقلة:
العدالة الانتقالية تفترض وجود كيان سياسي سيادي قادر على إدارة العدالة. في الحالة الفلسطينية، السلطة محدودة السيادة، ومقيدة باتفاقات أوسلو، مما يجعلها عاجزة عن تنفيذ تدابير حقيقية للعدالة.

2. استمرار الجاني في السيطرة:
في أغلب تجارب العدالة الانتقالية، تكون الأنظمة القمعية قد انهارت. أما في فلسطين، فالاحتلال الإسرائيلي ما زال قائمًا، ويمتلك أدوات الإكراه والعنف والسيطرة على الأرض والمعابر والمعطيات.
3. غياب آلية الاعتراف الدولية:
العدالة الانتقالية تتطلب اعترافًا دوليًا بطبيعة الجريمة والانتهاك. بينما ما يزال الاحتلال يُصوَّر كـ”نزاع سياسي”، لا كنظام فصل عنصري استيطاني، كما أثبتته تقارير أمنيستي وهيومن رايتس ووتش.

ثانيًا: انزلاق نحو عدالة مجتزأة أو وظيفية
1. تحويل الضحية إلى متهم:
في بعض الممارسات، يتم استدعاء أدوات العدالة الانتقالية لمحاكمة الفلسطينيين أنفسهم تحت ذريعة “الانقسام”، بينما يبقى الاحتلال خارج دائرة المساءلة، مما يُفرغ المفهوم من محتواه التحرري.

2. العدالة كبديل عن التحرير:
يُروَّج أحيانًا للعدالة الانتقالية كـ”حل واقعي” بدل التحرير، ما يجعلها أداة تسكين سياسي بدل أن تكون مسارًا للمحاسبة والتحرر. وهذا يعكس توظيفًا وظيفيًا للمفهوم يخدم استقرار الاحتلال لا تقويضه.

3. المعونات بدل الجبر:
تُستبدل أحيانًا آليات الجبر (التعويض، الإقرار، إصلاح المؤسسات) ببرامج “دعم نفسي” أو “تنمية محلية”، في تجاهل لطبيعة الضرر السياسي والوجودي الواقع على الشعب الفلسطيني.

ثالثًا: نحو عدالة انتقالية توقعية ومتحررة
1. تحرير المفهوم من الدولة:
ينبغي إعادة تعريف العدالة الانتقالية في السياق الفلسطيني باعتبارها أفقًا نضاليًا لا يُنتظر من “دولة” لم تولد، بل يُمارَس عبر الأرشفة، التوثيق، المطالبة بالحقوق، والربط بين الذاكرة والمعنى.

2. عدالة تشاركية عبر الحدود:
العدالة يجب أن تشمل الفلسطينيين في الداخل، الضفة، غزة، والمخيمات. وهذا يتطلب ميثاقًا جامعًا يعيد صياغة سردية الضحية، ويربط بين النكبة كحدث تأسيسي، والاحتلال كاستمرار بنيوي.

3. دمج الحقوقي بالتحرري:
لا عدالة دون مقاومة. لذا، يجب أن تتقاطع العدالة الانتقالية مع النضال ضد الاستعمار، عبر الملاحقة القضائية الدولية، وتوظيف أدوات مثل المقاطعة BDS، والمرافعة الإعلامية، لا باعتبارها تعويضات رمزية، بل أدوات تفكيك للبنية الاستعمارية.

ب- خاتمة: من الانتقال الزائف إلى إعادة التأسيس
العدالة الانتقالية في الحالة الفلسطينية ليست لحظة ختامية لنزاع انتهى، بل مشروع نضالي مفتوح. هي عدالة توقعية، تُبنى عبر كشف الحقيقة، وتوثيق الانتهاكات، ومساءلة الذات والآخر، لا كترف قانوني، بل كضرورة وجودية لاستعادة الكرامة والمعنى في سياق استعمار استيطاني معولم.
*مصطفى المنوزي

انقر للتعليق

الاكثر مشاهدة

Exit mobile version